في عصر المعلومات الحالي، أصبحت البيانات بمثابة النفط الجديد للأعمال. القدرة على جمع البيانات وتحليلها والاستفادة منها في اتخاذ القرارات تحولت إلى ميزة تنافسية جوهرية. لم يعد اتخاذ القرارات الاستراتيجية أو حتى التكتيكية يعتمد فقط على الحدس أو الخبرة الشخصية؛ القرارات المدعومة بالبيانات باتت الأكثر موثوقية وقابلية لإحداث نتائج إيجابية. الشركات القادرة على قراءة ما تخبرها به الأرقام والحقائق هي الأقدر على تفادي المخاطر واقتناص الفرص قبل غيرها. ولعل من أبرز الأدلة على أهمية هذا التحول، تقرير لمجموعة ماكنزي يشير إلى أن المنظمات المدفوعة بالبيانات تحقق نجاحات كبيرة: فهي أقدر بـ23 مرة على اكتساب عملاء جدد، و6 مرات على الاحتفاظ بالعملاء، و19 مرة على تحقيق الربحية مقارنة بغيرها . هذه الفجوة الهائلة تؤكد أن اعتماد ثقافة القرار المستند إلى البيانات لم يعد خيارًا، بل ضرورة حتمية للشركات التي تطمح إلى النمو والتفوق.
مصادر البيانات وأنواعها في بيئة الأعمال
لنتعرف أولاً على ما هي البيانات التي يمكن للشركة الاستفادة منها. في الواقع هناك مصادر عديدة ومتنوعة، منها:
• البيانات الداخلية: وهي تلك الناشئة من داخل عمليات الشركة. كبيانات المبيعات (ما المنتجات الأكثر مبيعًا، في أي أوقات، ولأي فئات من العملاء)، وبيانات الإنتاج (معدلات الإنتاج والجودة، التكاليف التشغيلية)، وبيانات العملاء (ملفات العملاء، تاريخ الشراء، أنماط التفضيل)، بالإضافة إلى بيانات الموارد البشرية (معدلات الأداء للموظفين، معدل دوران الموظفين). هذه البيانات غالبًا ما تكون متوفرة ولكن متناثرة عبر أقسام الشركة، والتحدي هو تجميعها وتنظيمها بشكل يتيح التحليل الفعال.
• بيانات سلوك المستخدمين على الإنترنت: أي شركة لها حضور رقمي عبر موقع إلكتروني أو تطبيق جوال أو منصات التواصل الاجتماعي تمتلك كنزًا من البيانات حول تفاعل المستخدمين. مثل عدد الزوار، الصفحات الأكثر مشاهدة، المدة التي يقضونها، معدل التحويل (Conversion Rate) من زائر إلى مشتري، مصدر الزيارات (بحث غوغل، حملات إعلانية،… إلخ). أدوات تحليل مثل Google Analytics تساعد في استخراج هذه المؤشرات بسهولة نسبيًا.
• البيانات السوقية والخارجية: وتشمل معلومات عن السوق ككل، المنافسين، التوجهات العامة للصناعة، بيانات الاقتصاد الكلي مثل نسب التضخم أو تغيرات دخل المستهلكين… إلخ. بعض هذه البيانات يأتي من تقارير أبحاث السوق أو قواعد بيانات عامة. كما أن هناك بيانات مفتوحة المصدر وإحصاءات حكومية يمكن أن تكون مفيدة خاصة للشركات الصغيرة لفهم البيئة التي تعمل فيها.
• بيانات وسائل التواصل ورضا العملاء: اليوم ينشر العملاء آراءهم بكثرة عبر الإنترنت. التعليقات والمراجعات (Reviews) على المنتجات، ما يُكتب عن الشركة على تويتر أو فيسبوك، كلها تشكل بيانات نوعية مهمة لقياس رضا العملاء وسمعة الشركة. يمكن لتحليل المشاعر (Sentiment Analysis) باستخدام أدوات ذكاء اصطناعي مثلاً أن يعطي صورة عن نظرة الجمهور للعلامة التجارية إيجابًا أو سلبًا.
• بيانات سلسلة الإمداد: إذا كان المشروع يعتمد على موردين أو عمليات لوجستية، فإن تتبع بيانات التوريد والشحن والمخزون بشكل لحظي يؤدي إلى تحسينات كبيرة. كمعرفة الزمن المستغرق لوصول المواد الخام، ونسبة التأخير في التسليمات، ومعدلات نفاد المخزون، وغيرها.
تحويل البيانات إلى قرارات: رحلة التحليل
جمع البيانات وحده لا يكفي؛ التحدي الأكبر يكمن في تحليل هذه البيانات واستخلاص الاستنتاجات منها لصنع القرارات. وهنا يأتي دور التقنيات والأدوات التحليلية، وكذلك فرق العمل المتخصصة مثل محللي البيانات ومهندسي البيانات وعلماء البيانات في الشركات الكبرى.
• التحليلات الوصفية (Descriptive Analytics): وهي الإجابة عن سؤال “ماذا حدث؟”. تتضمن هذه المرحلة إعداد تقارير ولوحات معلومات (Dashboards) تعرض الأرقام والإحصاءات الأساسية. مثلاً: تقرير شهري للمبيعات يبين أداء كل منتج، أو لوحة تعرض حركة الزوار اليومية للموقع الإلكتروني. هذه التحليلات تصوّر الواقع الحالي وتساعد في تحديد المشاكل أو النقاط التي تستحق المزيد من الانتباه.
• التحليلات التشخيصية (Diagnostic Analytics): تحفر أعمق لتجيب “لماذا حدث ما حدث؟”. هنا تُستخدم التقنيات لاكتشاف العلاقات والأنماط داخل البيانات. على سبيل المثال: لماذا ارتفعت مبيعات المنتج (A) في الربع الأخير؟ قد نكتشف عبر التحليل أنه تزامن مع حملة تسويقية معينة أو موسم معين أو تغيّر سعر المنافس. أدوات مثل التنقيب في البيانات (Data Mining) أو التحليل الإحصائي تأتي في هذا المستوى.
• التحليلات التنبؤية (Predictive Analytics): الآن نتطلع للأمام عبر محاولة توقع “ماذا يمكن أن يحدث؟”. بالاعتماد على البيانات التاريخية والنماذج الرياضية وتقنيات التعلم الآلي (Machine Learning)، يمكن بناء تنبؤات مثل توقع الطلب على منتج خلال الأشهر القادمة، أو احتمال فقدان عميل مشترك في خدمة بناءً على أنماط استخدامه (Customer Churn). هذه التوقعات ليست صحيحة 100% بالطبع، ولكنها توفر أساسًا استباقيًا للتخطيط. فمثلاً، إذا أظهر النموذج احتمال انخفاض الطلب في سوق ما، يمكن مبكرًا تعديل استراتيجية التسويق أو العرض في تلك المنطقة.
• التحليلات المعيارية (Prescriptive Analytics): وهو المستوى الأكثر تقدمًا، حيث لا نكتفي بالتنبؤ بل نقترح “ما الإجراء الذي ينبغي اتخاذه؟”. يتم ذلك عبر خوارزميات بإمكانها اقتراح قرارات مثلى بناءً على الأهداف المحددة. مثلاً: نظام يحدد المزيج الإعلاني الأمثل عبر القنوات المختلفة لتحقيق أقصى عائد ممكن ضمن ميزانية تسويق معينة. أو خوارزمية تضبط سلسلة الإمداد تلقائيًا لتقليل التكلفة عبر اختيار المورد الأرخص بناءً على بيانات الأسعار والمخزون في الوقت الفعلي.
هذه المراحل الأربع تمثل رحلة نضج في استخدام البيانات. ليست كل شركة تحتاج أو تستطيع البدء من المستوى الأعلى مباشرة. لكن المهم هو تبني عقلية التدرج والتحسّن المستمر: ابدأ بفهم بياناتك الأساسية، ثم انتقل تدريجيًا نحو التنبؤ والتوصيات مع ازدياد خبرتك وتوفر الأدوات والموارد.
بناء ثقافة مدعومة بالبيانات داخل الشركة
لضمان استفادة مستدامة من قوة البيانات، يجب أن تصبح ثقافة الشركة ذاتها قائمة على البيانات. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن جميع المستويات الإدارية، من القمة إلى المديرين المتوسطين، تثمن الحقائق والأرقام عند النقاش واتخاذ القرارات. بعض الممارسات التي تعزز هذه الثقافة:
• توفير الشفافية والوصول للبيانات: بدلاً من احتكار التقارير المهمة لدى الإدارة العليا فقط، توفر الشركات الحديثة لوحات معلومات آنية متاحة للموظفين المعنيين. مثلاً، فريق المبيعات يستطيع رؤية أرقام المبيعات لحظيًا ومقارنتها بالهدف الشهري. فريق خدمة العملاء لديه إحصائيات عن معدلات رضا العملاء أو أوقات الاستجابة. هذه الشفافية تجعل الجميع مدركًا للوضع ويتحمل مسؤوليته في تحسين الأرقام.
• التدريب وبناء المهارات: قد يخشى البعض من التعامل مع الأرقام أو يشعرون أنها مجال حصري لفريق التحليل. يمكن للشركة إزالة هذه الرهبة عبر برامج تدريب مبسطة لتعليم الموظفين قراءة التقارير الأساسية، وربط مؤشرات الأداء بعملهم اليومي. كما أن تشجيع بعض الموظفين على التعمق في مهارات تحليل البيانات (سواء عبر دورات خارجية أو تعليم أكاديمي مستمر) يزوّد المؤسسة بسفراء للبيانات داخل الإدارات المختلفة.
• دمج البيانات في عمليات اتخاذ القرار: اجعل من المعتاد في الاجتماعات أن تُعرض البيانات ذات الصلة قبل الاتفاق على أي قرار مهم. فإذا كان النقاش مثلاً حول تغيير استراتيجية التسعير، ينبغي عرض بيانات عن الحساسية السعرية للعملاء أو أسعار المنافسين قبل التوصية. عندما يرى الجميع أن القرارات مبنية دومًا على معلومات، يعتادون على هذا النهج ويبدأون بجمع المعلومات مسبقًا قبل طرح مقترحاتهم.
• الاحتفاء بالنجاحات المدعومة بالبيانات: شارك قصصًا داخلية عن قرارات ناجحة تم اتخاذها بناءً على تحليل البيانات. على سبيل المثال: حملة تسويقية حققت نجاحًا كبيرًا لأن الفريق اكتشف من البيانات أن الشريحة الفلانية تستجيب أكثر لقناة إعلانية محددة. أو قرار وقف منتج ضعيف الأداء تبين أنه كان صائبًا لأن الأرقام أظهرت اتجاهًا تنازليًا واضحًا للطلب عليه. هذه الأمثلة تلهم الآخرين وتثبت لهم جدوى العمل المدعوم بالبيانات.
رأي “ناحية”: البيانات كعامل تمكين للنمو
في تجاربنا مع الشركات الناشئة والصغيرة في “ناحية”، لاحظنا تحولاً جذريًا يحدث عندما تتبنى الإدارة منهجية البيانات. إحدى الحالات كانت لشركة تقدم خدمات توصيل طعام ناشئة، حيث كانت تتخذ قرارات تسويقية بناء على آراء فردية وفهم عام للسوق. قمنا بمساعدتهم على تتبع مجموعة من المؤشرات مثل أوقات الذروة للطلبات، وأكثر الأطباق طلبًا في كل منطقة، ومستويات رضا العملاء عبر استبيانات قصيرة بعد التوصيل. خلال أشهر قليلة من تحليل هذه البيانات، اتضح لهم مثلاً أن ذروة الطلب مساء الخميس أعلى بكثير من بقية الأسبوع وأن العملاء يهتمون بسرعة التوصيل أكثر من تنوع المطعم. بناءً على ذلك، أعادوا جدولة مناوبات السائقين لضمان تواجد أكبر مساء الخميس، وركزوا على عقد شراكات مع مطاعم تحظى بتقييمات توصيل أسرع. كانت النتيجة تحسين معدل إكمال الطلبات في الوقت المحدد بنسبة 20% في تلك الفترة ، وارتفاع تقييم التطبيق على المتجر الرقمي نتيجة رضا العملاء عن الخدمة الأسرع. هذه القصة توضح كيف يمكن لبضع نقاط بيانات مدروسة أن تقود إلى قرارات عملية تحقق فارقًا ملموسًا.
وكرأي عام، يؤكد مستشارو “ناحية” أن الاستثمار في بناء القدرات التحليلية وجمع البيانات منذ اليوم الأول يؤتي أُكله لاحقًا. حتى لو كان المشروع صغيرًا، سجّل بياناتك وراقبها – عدد الزبائن اليومي، ملاحظاتهم، كلفة اكتساب كل عميل، إلخ. لديك اليوم كثير من الأدوات المجانية أو منخفضة التكلفة لتتبع البيانات، فلا عذر في إهمالها. ومع نمو شركتك، فكر في تعيين محلل بيانات أو الاستعانة بخبرات خارجية لمساعدتك في استخراج البصائر وتوجيه دفة العمل بناءً عليها. قد يُقال أن رائد الأعمال يملك “حدسًا” في بعض الأحيان، وهذا صحيح، لكن الحدس الممزوج بالبيانات الصلبة يصبح سلاحًا قويًا لاتخاذ قرارات واثقة. في النهاية، الحقائق والأرقام هي اللغة المشتركة التي يمكن أن تجمع فريقك ومستثمريك وحتى عملاءك حول رؤيتك، فاجعلها نبراسًا يضيء طريق قراراتك.