naheyah.com

التعلم المستمر وتطوير المهارات

في ظل التسارع غير المسبوق في وتيرة التقدم التكنولوجي والتغيرات السوقية، أصبحت مهارات الأمس غير كافية لمتطلبات الغد. يدرك القادة ورواد الأعمال الناجحون أن نجاحهم ونجاح شركاتهم لا يقاس فقط بما يعرفونه حاليًا، بل بقدرتهم على اكتساب معارف ومهارات جديدة باستمرار. مفهوم “التعلم المستمر” لم يعد نصيحة نظرية عامة، بل هو استراتيجية عمل ضرورية لضمان البقاء في الصدارة. فالمهارات التقنيّة تتقادم سريعًا، وأساليب الإدارة تتطور، وسلوك المستهلك يتغير مع الأجيال. تشير الدراسات الحديثة من المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن حوالي 50% من الموظفين سيحتاجون لإعادة صقل مهاراتهم بحلول 2025  نتيجة تبني التقنيات الجديدة، وأن “نصف المهارات التي يمتلكها العاملون اليوم لن تعود مطلوبة بحلول 2030” . كما انخفض ما يسمى “نصف عمر المهارة” – أي الزمن الذي تصبح بعده نصف المعلومات المكتسبة عن موضوع ما متقادمة – إلى أقل من 5 سنوات في المتوسط . هذه الإحصاءات صادمة لكنها تشحذ الهمم: فالنهوض على سلم التطور الوظيفي والريادي أشبه بالجري على سلم كهربائي يتحرك للأسفل – إن لم تتقدم باستمرار ستجد نفسك تتراجع.

لماذا التعلم المستمر حيوي لرواد الأعمال والقادة؟

          •         مواكبة التغيير والابتكار: التقنيات الناشئة (كالذكاء الاصطناعي، البلوكتشين، إنترنت الأشياء…إلخ) تخلق فرصًا وتحديات جديدة. القائد المطلع على آخر التطورات يمكنه استباق المنافسين بتبني أدوات أو نماذج عمل مبتكرة. على سبيل المثال، من يدرك مبكرًا تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجاله يستطيع تحسين الكفاءة أو تقديم خدمة جديدة قبل أن يفعل ذلك الآخرون. والعكس صحيح، من لا يتعلم سيجد أن منافسين أحدث منه يستخدمون تقنيات تعطيهم التفوق.

          •         اتخاذ قرارات مبنية على المعرفة الحديثة: تتوسع قاعدة المعلومات المتاحة في كل التخصصات باضطراد. التعلم المستمر يعني أن تبقى قراراتك مستنيرة بأحدث المعطيات وليس معلومات قديمة قد تكون تغيرت. مدير الاستثمار الذي لم يحدث فهمه لطبيعة الأسواق الجديدة (مثل اقتصاد العملات الرقمية أو اتجاهات الاستدامة) قد يتخذ قرارات خاطئة. مدير الموارد البشرية الذي لا يطلع على أحدث أبحاث تطوير الفرق ربما يفوّت طرقًا أفضل لإدارة المواهب. المعرفة قوة، والحفاظ على قوة القرار يتطلب الحفاظ على طزاجة المعرفة.

          •         تطوير نمط تفكير وقدرة على حل المشكلات: التعلم ليس فقط تلقي معلومات، بل هو تمرين للذهن على التفكير المرن والإبداعي. عندما تتعلم لغة جديدة أو تنخرط في دورة بموضوع خارج اختصاصك، فأنت تدرب عقلك على رؤية الأنماط المختلفة. هذا الانفتاح يجعل القائد أقدر على حلول خارج الصندوق لأنه تعوّد على الخروج من منطقة راحته الفكرية. كثيرًا ما تستلهم الحلول الإبداعية لمشكلة في التسويق مثلا من مبادئ تتعلمها في دورة عن علم النفس، أو تحل مشكلة تنظيمية باستعارة مفهوم من منهجية برمجية كنت قد تعلمتها.

          •         إلهام الفريق وثقافة الشركة: القائد الذي يظهر شغفًا بالتعلم يشجع فريقه ضمنيًا على نفس النهج. إذا رأى الموظفون مديرهم يحضر دورات أو يناقش كتبًا جديدة أو يطبق منهجيات تعلمها مؤخرًا، سيلتقطون الرسالة أن الشركة تقدر التعلم. وحين يستثمر القائد في تطوير نفسه فهو أكثر اقتناعًا بأهمية تطوير موظفيه. وهذه الثقافة التعلمية تزيد من ولاء الموظفين (لأنهم ينمون مع الشركة) وتفيد الشركة بالتأكيد عبر ارتفاع مهارات الجميع. إنه وضع فوز للطرفين: الموظف يكسب خبرات والقائد يحصل على فريق أكثر قدرة.

          •         التكيف مع الأدوار والمسؤوليات الجديدة: رحلة رائد الأعمال نادرًا ما تكون ثابتة؛ فمع نمو الشركة أو تغير طبيعة السوق، تتغير القبعات التي يرتديها القائد. ما يبدأ به كخبير تقني يحتاج أن يتعلم مهارات القيادة الاستراتيجية، ومن ركّز في السوق المحلية قد يجد نفسه يقود توسعًا عالميًا ويحتاج فهم ثقافات مختلفة. التعلم المستمر هو الذي يسمح لك بإعادة ابتكار نفسك مهنيًا كل بضع سنوات لتلائم الأدوار الجديدة. وهذا ليس مهمًا فقط للنمو بل لتفادي هبوط الأداء؛ فكثير من الشركات تفشل لأن مؤسسيها لم يستطيعوا تعلم مهارات الإدارة عندما كبرت المؤسسة .

وسائل وأساليب تطوير المهارات في عصرنا

التحدي ليس في توفر الموارد، بل في كثرتها أحيانًا. كيف يستفيد القائد من كل فرص التعلم المتاحة؟ بعض الأساليب الفعالة تشمل:

          •         التعلم الذاتي عبر الإنترنت: نحن في زمن الـMOOCs (الدورات الجماعية المفتوحة) والمحتوى التعليمي الواسع. منصات مثل Coursera, edX, Udemy توفر آلاف الدورات في الإدارة، التقنية، اللغات…إلخ. الكثير منها مجاني أو بتكلفة رمزية. يمكنك وضع خطة سنوية بأهم 2-3 مواضيع ترغب بتعلمها وساعة محددة أسبوعيًا تلتزم بها لمتابعة الدورة. أيضًا مقاطع الفيديو التعليمية على YouTube والبودكاست غنية بالمعلومات، ويمكن استغلال وقت التنقل أو الرياضة في الاستماع لبودكاست مفيد. المفتاح هو الانضباط الذاتي: خصص وقتًا ثابتًا في جدولك كما لو كان اجتماعًا.

          •         القراءة المنتظمة: من أبسط وأقدم الطرق وأكثرها مرونة. اجعل لك هدفًا للقراءة: مثلاً قراءة كتاب متعلق بعملك كل شهر. ليس بالضرورة كتب أكاديمية ثقيلة؛ حتى سير رواد الأعمال أو كتب تتحدث عن تجارب شركات أو مفاهيم جديدة تعتبر ثرية. ضع قائمة قراءة واستفد من الترشيحات (هناك شبكات اجتماعية مثل Goodreads لمعرفة المراجعات والتوصيات). إن لم يكن الكتاب من هواياتك، جرب الكتب المسموعة التي أصبحت منتشرة. القراءة تزودك بخبرات وتجارب في وقت قصير وبكلفة زهيدة.

          •         ورش العمل والمؤتمرات: اختر بعناية الفعاليات التي تحضرها – ابحث عن مؤتمرات وندوات في مجال صناعتك، أو حتى خارجها لكنها تتناول موضوعات تهمك (مثلاً مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وأنت في قطاع الزراعة لتتعلم إمكانات التقنية لعملك). الميزة هنا مزدوجة: تتعلم من خبراء عبر جلسات منظمة ومركزة، وتقوم بتوسيع شبكتك بمقابلة أشخاص لديهم اهتمامات مشابهة. وربما أفضل شيء أن هذه الفعاليات تجبرك على الخروج من روتين العمل لبضعة أيام والتفكير بصورة أوسع. بعد العودة، شارك فريقك بما تعلمته – فتثبت معلوماتك وتنقل المعرفة لهم.

          •         التعليم الرسمي المتقدم: البعض يختار الالتحاق ببرامج أكاديمية حتى أثناء العمل، كدرجة ماجستير إدارة الأعمال (MBA) أو شهادات تخصصية في مجال محدد. صحيح أن هذا التزام كبير بالوقت والمال، لكنه قد يكون مفيدًا جدًا لمن يشعر أنه بحاجة لصياغة معرفته ضمن إطار منهجي. والحلول المختلطة موجودة: مثلاً برامج MBA تنفيذية بدوام جزئي تناسب جداول المدراء، أو شهادات مصغرة MicroMasters أونلاين. فكر في العائد: هل ستزيد هذه الدراسة من معرفتك وشبكتك بما يبرر الجهد؟ إن كانت الإجابة نعم بوضوح، فقد يكون الاستثمار مستحقًا.

          •         التعلم من الممارسة والتجريب: في أحيان كثيرة، خوض تجربة جديدة هو أفضل معلم. يمكنك تعلم مهارة قيادة مشروع جديد بتولي قيادة مبادرة صغيرة خارج نطاق راحتك في شركتك. أو تطوير مهارة التواصل عبر تحدي نفسك لإلقاء كلمة عامة في فعالية. قد يبدو الأمر صعبًا، لكن الممارسة العملية تمنحك تغذية راجعة فورية وتحسن قدراتك بشكل لن تحققه الدراسة وحدها. وحتى الفشل في التجربة هو درس تعلم لا يُقدّر بثمن. لذا ابحث عن مشاريع وفرص تطوع أو مهمات خاصة تخوضها لاكتساب مهارات في الميدان. على سبيل المثال، إذا كنت تريد تقوية مهاراتك المالية، أطلب الإشراف على جزء من ميزانية القسم لفترة، أو شارك في لجنة للتخطيط المالي بالشركة إن أمكن.

بناء ثقافة “التعلم مدى الحياة” داخل الشركة

كما ذكرنا، سلوك القائد وتوجهه نحو التعلم ينسحب على المؤسسة. إليك بعض الممارسات لغرس هذه الثقافة:

          •         خطط تطوير فردية لكل موظف: بالتنسيق مع الموارد البشرية، اجعل لكل موظف خطة سنوية تشمل هدفًا تعلميًا بجانب أهداف الأداء. قد يكون حضور دورة معينة، أو الحصول على شهادة، أو تعلم لغة، حسب ما يفيده ويفيد العمل. تابع التقدم واحتفل بتحقيق هذه الأهداف كما تحتفل بأهداف المبيعات والإنتاج.

          •         جلسات تبادل المعرفة: شجع الموظفين على مشاركة ما يتعلمونه. مثلاً، اجتماع شهري يختار فيه موظفان تقديم عرض 10 دقائق عن شيء جديد تعلموه أو مؤتمر حضروه. أو نشرة إخبارية داخلية تحوي تعلمت هذا الشهر…”. عندما يرى الفريق بأكمله أنه يمكنهم التعلم من بعض، سيتحمسون للاستكشاف أكثر ليكون لديهم ما يشاركونه. وقد رأينا شركات تعتمد نادي كتاب حيث يقرأ الجميع كتابًا ذا صلة شهريًا ثم يناقشونه سويًا – نشاط يعزز التعلم وروح الفريق معًا.

          •         التعلم من أخطاء العمل: بدل ثقافة لوم الأخطاء، حول الأخطاء إلى دروس مؤسسية. بعد أي مشروع فشل أو قصّر عن الهدف، اعقد جلسة “ما بعد الوفاة” (Post-mortem) كما تسمى بنهج ودي، لمحاولة فهم مواطن الخطأ وكيفية تجنبها. دوّن العبر المستفادة وعممها. بذلك تتعلم الشركة ككل من تجربة كل جزء منها. وحين يرى الموظفون أن الخطأ ليس نهاية العالم بل خطوة في التعلم، سيزيد ابداعهم وتجريبهم بلا خوف.

          •         تقدير التطور وليس الكفاءة الثابتة: أثناء تقييم الأداء، لا تنظر فقط للنتائج الرقمية؛ اسأل: ماذا تعلم هذا الشخص الجديد هذا العام؟ وقدّر ذلك. أيضًا عند التوظيف، وظّف بناءً على القدرة على التعلم وليس فقط المهارات الحالية. من إشارات هذه القدرة فضول المرشح، تنوع خبراته، واستعداده لخوض تحديات جديدة. فصاحب القابلية للتعلم سيجلب أضعاف قيمته بمرور الوقت.

          •         قيادة بالتواضع العلمي: اعترف أحيانًا أمام فريقك بأنك تعلمت أمرًا ما لم تكن تعرفه، أو أنك لا تعرف حاليًا شيئًا وستبحث عنه. هذا يزيل ثقافة المدير العارف بكل شيء، ويبيّن أن كلنا نتعلم بغض النظر عن المنصب . وبالتالي لن يخشى الموظفون من التعبير عن حاجتهم للتعلم أو عدم معرفتهم موضوعًا ما، بل سيبادرون بطلب التدريب أو التوجيه دون شعور بالنقص.

تجربة “ناحية”: التعلم كميزة تنافسية

لطالما كان شعار “ناحية” الداخلي أن المعرفة قوة التنفيذ. في إحدى الحالات، شعر عميلنا – وهو مدير شركة تقنية ناشئة – أنه بدأ يفقد الاتصال بتطورات البرمجة الحديثة، مما أثّر في فهمه لمنتجه. نصحناه أن يخوض تجربة تعلم برمجة بلغة جديدة بالتعاون مع فريقه التقني. رغم منصبه، جلس ليتعلم من مطوريه الشباب أساسيات اللغة الجديدة وبنى معهم جزءًا صغيرًا من التطبيق. هذه الخطوة ألهمت فريقه بشكل كبير وزادت من احترامهم له، كما جعلته هو نفسه أكثر دراية بالتحديات التقنية التي يواجهونها. يقول إنه خلال 3 أشهر تعلّم أكثر عن منتجه مما تعلّمه في السنة الماضية بأكملها. وأصبحت تلك الجلسات التعليمية تقليدًا أسبوعيًا بين الإدارة والفريق التقني، خلقت فهمًا مشتركًا ومصداقية عالية.

في مثال آخر، ساعدنا شركة عائلية متوسطة في قطاع الصناعات على تصميم برنامج “الجيل الصاعد” لإعداد قادة مستقبليين من الصف الثاني. كان المبدأ أن يقضي كل مشارك 20% من وقته في قسم مختلف عن قسمه الأصلي لتعلم جوانب جديدة من العمل. بعد سنة، لاحظت الإدارة تحسنًا واضحًا في تعاون الأقسام لأن كل منهم صار يفهم تحديات الآخر، وكثير من المواهب الشابة شعرت بتقدير الشركة لها فثبتت أقدامها ولم تفكر بالانتقال. كما خرج بعضهم بأفكار تطويرية خلاقة نتيجة الرؤية الشمولية التي اكتسبوها. أصبح البرنامج جزءًا أساسيًا من مسار الترقيات في الشركة كعامل تمييز إيجابي.

باختصار، التعلم المستمر هو استثمار مثمر مهما بدت كلفته من وقت أو مال. إنه يمنح الأفراد والشركات حيوية دائمة وقدرة على التجدد ومجاراة الزمن. رسالة “ناحية” لرواد الأعمال والقادة: لا تدع وتيرة العمل اليومية تخدعك بأنك مشغول جدًا عن التعلم – في الحقيقة، التعلم هو ما سيبقي عملك مستمرًا ومشغولاً في المستقبل. اجعل التعلم عادة شخصية ومؤسسية، وستجد أن العوائد تتجلى في كل جوانب عملك: من جودة القرارات إلى ابتكار المنتجات إلى رضا العملاء والموظفين. وكما يقال، “عقل القائد كالمظلة، يعمل أفضل عندما يكون مفتوحًا”. أبقِ عقلك مفتوحًا دومًا للجديد، وستظل شركتك في طليعة السباق مهما تغيرت مساراته.