لم يعد نجاح الشركات يُقاس اليوم بالأرقام المالية فحسب، بل دخلت معايير جديدة إلى المعادلة تتمثل في مدى التزام الشركة بمسؤوليتها تجاه المجتمع والبيئة. مفهوم الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) بات جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الأعمال الحديثة. فالمستهلكون والمستثمرون والحكومات يطالبون الشركات بالقيام بدور إيجابي يتجاوز تحقيق الأرباح إلى إحداث تأثير إيجابي في العالم. وبدورها بدأت الشركات الذكية تدرك أن تبني ممارسات مستدامة وأخلاقية ليس عائقًا أو تكلفة إضافية فقط، بل يمكن أن يكون مصدرًا للميزة التنافسية وجذب العملاء. وتشير استطلاعات رأي عالمية إلى تحول كبير في تفضيلات المستهلك: مثلاً، أظهرت دراسة حديثة أن 78% من المستهلكين يشعرون أن الاستدامة مهمة عند اتخاذ قرارات الشراء ، وأكثر من نصف المستهلكين على استعداد لدفع سعر أعلى لمنتجات من شركات تراعي البيئة . كذلك قال 84% من العملاء إن الممارسات البيئية السيئة قد تجعلهم يهجرون علامة تجارية . هذه الأرقام تعكس حقيقة واضحة: الالتزام بالاستدامة لم يعد خيارًا تسويقيًا بل ضرورة لاستمرار الأعمال على المدى الطويل.
ماذا نعني بالاستدامة والمسؤولية الاجتماعية؟
الاستدامة في سياق الأعمال تعني تلبية الشركة لاحتياجاتها واحتياجات عملائها دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها. تشمل الاستدامة ثلاث ركائز: البيئية والاجتماعية والاقتصادية – وغالبًا ما يشار لها بـTriple Bottom Line (People, Planet, Profit). أما المسؤولية الاجتماعية للشركات (CSR) فتركز على الدور الطوعي الذي تؤديه الشركة لخدمة المجتمع والبيئة بما يتعدى المتطلبات القانونية.
بعض الأمثلة العملية تشمل:
• الممارسات البيئية المستدامة: تقليل انبعاثات الكربون، تحسين كفاءة استخدام الطاقة، التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة في التشغيل، إدارة المخلفات وإعادة التدوير، خفض استخدام البلاستيك… إلخ. شركات مثل Patagonia وInterface اشتهرت بخططها البيئية الجريئة التي تهدف للوصول إلى بصمة كربونية صفرية.
• الممارسات الاجتماعية والأخلاقية: ضمان بيئة عمل عادلة وآمنة للموظفين، تنوع وشمول في التوظيف، احترام حقوق الإنسان في سلسلة الإمداد (مثل تجنب التعامل مع موردين يستغلون العمالة)، الاستثمار في تنمية المجتمعات المحلية عبر برامج دعم وتعليم وتبرعات. مثلاً، شركات تقنية عديدة تخصص موارد لتعليم التكنولوجيا في المدارس أو تدريب الشباب، ضمن مسؤوليتها المجتمعية.
• المنتجات والخدمات المستدامة: تطوير منتجات صديقة للبيئة (مثل أجهزة موفرة للطاقة، أو مواد قابلة للتحلل) أو خدمات ذات أثر اجتماعي إيجابي (مثل منصات تبرع وتمويل خيري). وهنا لا يكون البعد المستدام منفصلاً عن العرض التجاري بل جزءًا من القيمة المقترحة. على سبيل المثال، علامة ملابس تستخدم فقط خامات معاد تدويرها وتسوّق لنفسها بناء على ذلك.
• الحوكمة الرشيدة (Governance): الشفافية في التقارير والإفصاح، مكافحة الفساد، الالتزام بمعايير أخلاقية عالية في التعامل مع العملاء والموردين. الحوكمة عنصر أساسي في مفهوم الاستدامة حيث يتعلق بكيفية اتخاذ الشركة للقرارات بشفافية وعدل.
المكاسب التجارية من تبني الاستدامة
قد يتبادر إلى ذهن بعض رواد الأعمال أن الاستدامة عبء أو تكلفة قد تؤثر على الربحية. لكن الدراسات الواقعية تشير إلى عكس ذلك في كثير من الأحيان؛ إن نُفذت الاستدامة بذكاء، تكون النتائج إيجابية للربح إلى جانب الكوكب والمجتمع:
• جذب شرائح جديدة من العملاء: المستهلك الواعي بيئيًا واجتماعيًا أصبح شريحة وازنة، خاصة بين الشباب. هؤلاء يبحثون فعلاً عن منتجات من شركات مسؤولة حتى لو كان السعر أعلى قليلاً. أحد التقارير بيّن أن 62% من الناس يقولون أنهم غالبًا أو دائمًا يبحثون عن منتجات مستدامة عند التسوق . من خلال تبني الاستدامة، أنت تفتح سوقًا لهؤلاء وتكسب ولاءهم. كما أن العملاء الفخورين بدعم علامة مستدامة يتحولون إلى سفراء لها ينشرون الفكرة بين معارفهم.
• تقليل التكاليف وزيادة الكفاءة: كفاءة استخدام الموارد تعني هدرًا أقل وبالتالي توفيرًا مالياً. شركات وفرت ملايين عبر خفض استهلاك الطاقة والماء في مصانعها. إعادة التدوير يمكن أن تقلل كلفة شراء مواد خام جديدة. كذلك، رفع كفاءة سلسلة الإمداد لتقليل المسافات والوقود يخفض المصاريف. هناك أمثلة لا تحصى لشركات بدأت برامج بيئية بهدف أخلاقي ولكن اكتشفت أنها حسّنت هوامش الربح أيضًا.
• تحسين صورة العلامة التجارية وإدارة السمعة: الشركات المسؤولة تحظى بتقدير واسع من المجتمع، وهذا يمكن أن يحميها وقت الأزمات. سمعة إيجابية قد تجعل العملاء أكثر تسامحًا إذا حدث خطأ ما لأنه معلوم لديهم أن الشركة حسنة النية وذات سجل طيب. على الجانب الآخر، تجاهل المسؤولية قد يؤدي لكوارث علاقات عامة كما رأينا في حالات شركات تعرضت لمقاطعات بسبب انتهاكات بيئية أو حقوقية. الاستثمار في الاستدامة هو تأمين ضد مخاطر السمعة.
• اجتذاب المستثمرين وتخفيف المخاطر: في عالم التمويل، ظهر توجه قوي نحو الاستثمار المستدام (ESG Investing). الكثير من الصناديق والمستثمرين المؤسسيين يفضّلون الشركات ذات الأداء البيئي والاجتماعي الجيد، ويرون فيها إدارة أقل مخاطرة وأكثر استقرارًا. بعض المستثمرين ببساطة لن يضعوا أموالهم في شركة سجلها سيء في هذه الجوانب. لذا قد يساعد تبني الاستدامة في تأمين مصادر تمويل أفضل وأكثر تنوعًا.
• تحفيز الابتكار: عندما تتبنى تحدي الاستدامة، غالبًا ما يدفعك ذلك للابتكار في منتجاتك وعملياتك. إيجاد حل لتقليل استهلاك الطاقة أو تطوير عبوات صديقة للبيئة أو تحسين ظروف العمالة في مصنع بعيد قد يفتح أمامك آفاقًا جديدة للأفكار. هذه التحسينات المبتكرة قد تعود بالنفع التجاري أيضًا عبر تحسين المنتج أو تخفيض تكلفته أو تسريعه.
كيف تبدأ رحلتك نحو شركة مستدامة؟
سواء كنت تدير مشروعًا ناشئًا أو شركة قائمة منذ سنوات، لم يفت الأوان لتبني الاستدامة. بعض الخطوات العملية:
• قيّم وضعك الحالي: قم بإجراء تدقيق للاستدامة في شركتك. انظر في عملياتك: أين أعلى استهلاك للطاقة؟ ما مصادر انبعاثاتك الكربونية؟ هل تراقب سلسلة التوريد لديك لضمان ظروف عمل عادلة؟ ما سياساتك تجاه تنوع الموظفين وتدريبهم؟ هذه المراجعة ستكشف نقاط القوة التي يمكن البناء عليها وكذلك نقاط الضعف التي تحتاج لمعالجة.
• ضع أهدافًا واضحة وواقعية: حدد بضعة أهداف استدامة يمكن تحقيقها تدريجيًا. مثلاً: تخفيض استهلاك الطاقة بنسبة 20% خلال 3 سنوات. أو التحول إلى مواد تغليف قابلة لإعادة التدوير 100% بنهاية العام المقبل. أو تخصيص 5% من الأرباح السنوية لمشاريع مجتمعية. تأكد أن الأهداف قابلة للقياس (يمكن تتبعها) ومعلنة لكي يكون هناك التزام عام بها.
• أشرك فريقك وثقّفه: الاستدامة ليست مهمة إدارة عليا فقط. عرّف جميع العاملين بمبادراتك وأهدافك واشرح لهم السبب والفائدة. قد تتفاجأ بأن لديهم أفكارًا رائعة للتنفيذ لأنهم الأقرب للعمليات اليومية. درّب الموظفين على ممارسات جديدة (مثل إعادة التدوير المكتبي، أو توفير الطاقة، أو معايير أخلاقية في العمل). عندما يشعر الجميع أنهم جزء من مهمة نبيلة وليس مجرد عمل روتيني، سيتحمسون أكثر.
• تعاون مع الآخرين: انظر في فرص الشراكة لتحقيق أهداف الاستدامة. ربما مؤسسة بيئية غير ربحية يمكنها إرشادك في خفض البصمة الكربونية. أو تحالف شركات محلي يعمل معًا على مشاريع مجتمعية مشتركة. أيضًا تواصل مع مورديك وشجعهم على تبني ممارسات مسؤولة؛ ففي النهاية سمعتك تشمل سلسلة التوريد كلها. العديد من الشركات العالمية تشترط على مورديها الالتزام بمعايير استدامة معينة قبل التعامل معهم .
• التوثيق والإفصاح: كن شفافًا بشأن ما تفعله. أصدر تقارير استدامة سنوية تبين تقدمك نحو أهدافك، وتشمل الإنجازات وكذلك التحديات. الشفافية تبني الثقة مع الجمهور والمستثمرين، وتضع عليك ضغطًا إيجابيًا للمضي قدمًا. اليوم حتى الشركات الصغيرة بدأت تنشر مثل هذه التقارير أو على الأقل مقالات دورية عن جهودها المستدامة. المحتوى الصادق هنا يمكن أن يكون أيضًا مادة تسويقية لإبراز قيمك.
• اجعلها جزءًا من استراتيجيتك: لا تتعامل مع الاستدامة كمشروع جانبي أو مبادرات خيرية متفرقة. الأفضل دمجها في صلب إستراتيجية العمل. أي قرار استثماري أو تطوير منتج جديد، ضمّنه معيار “كيف يؤثر على أهدافنا المستدامة؟”. بهذه الطريقة تصبح المسؤولية جزءًا من DNA الشركة وطريقتها في التفكير، وليست مجرد window dressing (زخرفة شكلية).
تجربة “ناحية”: نمو قائم على القيمة
من خلال عملنا مع شركات ناشئة وشركات عائلية، لاحظنا تحوّلًا مثيرًا للإعجاب لدى بعضها عندما تبنت مبادئ الاستدامة. إحدى الشركات الصناعية المتوسطة، على سبيل المثال، كانت ترى في معايير البيئة عائقًا. بعد ضغوط من عملاء أوروبيين، جاءت إلينا طالبة المشورة. بدأنا بتبني حلول بسيطة: استبدال بعض المواد الخام ببدائل معاد تدويرها، وتحسين معالجة المياه المستخدمة في التصنيع. مع الوقت، أدركت الشركة أن التكاليف لم تزيد كثيرًا كما كانت تخشى؛ بل وفرت فاتورة الطاقة عبر الكفاءة الجديدة. وعندما رأت اهتمام السوق الأوروبي بهذه الجهود، جعلتها ميزة تنافسية تروج لها في عروضها للعملاء الجدد. النتيجة؟ تمكنت من الفوز بعقود إضافية لأن المشتري أصبح مطمئنًا أنها تلبي معايير البيئة الصارمة. لقد تحول الامتثال البيئي من عبء إلى نقطة بيع تميز الشركة عن بعض المنافسين .
في قصة أخرى، شركة أغذية صغيرة ركزت على السوق المحلي قررت أن تساهم اجتماعيًا عبر إطلاق مبادرة مع بنوك الطعام للتبرع بمنتجات للأسر المحتاجة، وربطت ذلك بعروضها التسويقية (كل مشتريات بقيمة كذا = تبرع بوجبة). هذه الحملة رفعت مبيعاتها فعلًا، لكن الأهم أنها عززت سمعة الشركة محليًا ككيان يهتم بالمجتمع. لاحظنا زيادة انتماء الموظفين لهذا الجهد لدرجة أنهم أصبحوا يروجون للشركة في محيطهم بفخر. وفي عام لاحق تعرضت الشركة لأزمة تتعلق بجودة دفعة من المنتجات، إلا أن وفاءها الاجتماعي السابق ساعد في احتواء الغضب؛ حيث منحها العملاء والصحافة المحلية فرصة لتصحيح الخطأ بدلًا من إطلاق حملة مقاطعة، ربما تقديرًا لسجلها الأخلاقي الجيد.
مثل هذه الأمثلة رسخت لدينا قناعة أن القيم يمكن أن تقود إلى الأرباح. وكمبدأ يوجهنا في “ناحية”، نشجع كل عميل على أن يبحث عن تقاطع مصلحة عمله مع مصلحة المجتمع والبيئة – ففي ذلك التقاطع تكمن فرص ابتكار ونمو مستدامة بحق. رائد الأعمال الشاطر يفكر طويل الأمد: كيف تظل شركتي ناجحة لعقدين وثلاثة من الزمن؟ البيئة والمجتمع هما سياق عملك؛ إذا ازدهرا ازدهرت شركتك، وإن تدهورا ستعاني أنت أيضًا ولو بعد حين. لذا تبنى الاستدامة من اليوم وأدخل السباق في مصاف الشركات المسؤولة، فالمستقبل يُصنع اليوم بما نزرعه من ممارسات وقيم.