في عالم متزايد الرقمنة، صارت البيانات من أثمن أصول الشركات، وأصبح الأمن السيبراني حصنًا لا غنى عنه لحماية هذه الأصول وضمان استمرارية الأعمال. لم تعد هجمات القراصنة والبرمجيات الخبيثة قصصًا خيالية أو مشاكل تخص الشركات التقنية الكبرى فقط؛ بل تطال اليوم جميع أنواع المؤسسات بما فيها الصغيرة والمتوسطة. في الواقع، تظهر الإحصاءات أن 46% من اختراقات الأمن السيبراني عالميًا تستهدف شركات يقل عدد موظفيها عن 1000 موظف ، والكثير من هذه الهجمات يركز على الأعمال الصغيرة والمتوسطة تحديدًا لافتراض المهاجمين أنها أقل تحصينًا. النتائج قد تكون كارثية: فقدان بيانات العملاء، تعطل العمليات، خسائر مالية مباشرة بسبب الاحتيال، أو سمعة سيئة وانهيار ثقة الزبائن. بل تفيد تقارير متداولة – رغم التشكيك فيها – أن 60% من الشركات الصغيرة التي تتعرض لهجمة سيبرانية خطيرة تغلق أبوابها خلال 6 أشهر . حتى لو كان الرقم غير دقيق بالكامل، فهو يعكس حقيقة صعوبة تعافي الأعمال الصغيرة من الضربات الأمنية. لذا فإن بناء منظومة قوية لحماية البيانات وأنظمة المعلومات يجب أن يكون أولوية قصوى منذ البدايات الأولى لأي مشروع، وليس مجرد إضافة تكميلية.
أبرز التهديدات السيبرانية التي تواجه الشركات
لفهم كيفية الدفاع، علينا التعرف على طبيعة المخاطر:
• التصيد الاحتيالي (Phishing): وهو أكثر الأساليب شيوعًا لاستهداف الأفراد في الشركة. تصل رسالة بريد إلكتروني أو رابط مشبوه يدّعي أنه من جهة موثوقة (كالبنك أو الإدارة) ويطلب إدخال معلومات حساسة أو تنزيل ملف ملغم. كثير من الاختراقات الكبرى بدأت بنقرة موظف غير منتبه على رابط خبيث. مع العمل عن بعد، زادت هذه الهجمات لأن التواصل صار إلكترونيًا بالكامل.
• البرمجيات الخبيثة (Malware): تشمل الفيروسات وأحصنة طروادة وبرمجيات الفدية (Ransomware). يمكن أن تدخل عبر مرفق بريد أو تحميل من الإنترنت أو ذاكرة USB مصابة. برمجيات الفدية خصوصًا شهدت ارتفاعًا مخيفًا، حيث 82% من هجمات الفدية في 2021 استهدفت شركات أقل من 1000 موظف . هذه البرمجيات تقوم بتشفير كل ملفات الشركة وتطالب بفدية مالية لفكها.
• اختراق كلمات المرور: ضعف كلمات المرور أو استخدام واحدة لكافة الحسابات يمثل خطرًا كبيرًا. قد يقع الموظف ضحية تسريب بيانات من خدمة ما، فتجد كلمة مروره في متناول القراصنة الذين سيحاولون استخدامها للدخول إلى حسابات العمل. وإذا تمكن المهاجم من الوصول لحساب بريد المدير مثلاً، فقد يتنكر به ويراسل الموظفين أو العملاء بخداع.
• الهندسة الاجتماعية: تعتمد على خداع الناس بدلًا من كسر الأنظمة التقنية. كأن يتصل شخص مدعيًا أنه من قسم تقنية المعلومات ويطلب من الموظف كشف كلمة مروره “لحل مشكلة”. أو يستغل المعلومات المتاحة على لينكدإن ليرسل رسالة موثوقة لموظف يوهمه أنه من المدير. للأسف، 350% أكثر تعرضًا موظفو الشركات الصغيرة لهجمات الهندسة الاجتماعية مقارنة بكبار الشركات ، ربما لغياب التدريب الكافي.
• ثغرات الأجهزة والبرامج: أنظمة التشغيل والبرامج غير المحدثة قد تحوي ثغرات أمنية معروفة. كثير من الهجمات تستغل برمجيات قديمة لم يتم ترقيعها. الشبكات اللاسلكية غير المؤمنة جيدًا في المكتب أو اتصالات المنزل للموظفين عن بعد قد تكون بابًا سهلًا للمتسللين. الأجهزة المحمولة للموظفين أيضًا تمثل مخاطرة إذا سُرقت أو وقع عليها اختراق وهي تحوي بيانات الشركة.
وضع أساسيات الحماية السيبرانية لشركتك
رغم تعدد التهديدات، هناك ممارسات أساسية تشكل الطبقات الأولى من دفاعك:
• سياسة كلمات مرور قوية وتعددية العوامل: أفرض استخدام كلمات مرور معقدة (طويلة ومتنوعة الأحرف) لجميع الحسابات، واستعن بمديري كلمات المرور لتسهيل ذلك. الأهم: تفعيل المصادقة متعددة العوامل (2FA) حيثما أمكن – أي طلب رمز إضافي (يرسل للهاتف مثلاً) عند تسجيل الدخول. هذا الإجراء البسيط يحبط غالبية محاولات الاختراق القائمة على معرفة كلمة المرور فقط.
• التحديث المنتظم للأنظمة: تأكد أن نظام التشغيل وجميع البرمجيات الرئيسية على أجهزة الموظفين محدَّثة لآخر الإصدارات. نفس الشيء لأجهزة الموبايل المستخدمة للعمل. كثير من التحديثات تأتي بسد ثغرات أمنية خطيرة مكتشفة حديثًا، فالتأخر فيها يعني ترك باب مفتوح معروف. يمكن أتمتة جزء كبير من هذه العملية لضمان انتظامها دون مجهود يدوي كبير.
• جدران الحماية وبرمجيات مكافحة الفيروسات: استخدام جدار حماية (Firewall) للشبكة يراقب حركة البيانات ويمنع الاتصالات المشبوهة. كذلك تثبيت حلول مضاد الفيروسات ومكافحة البرمجيات الخبيثة على كل جهاز، مع تحديث قاعدة بياناتها دوريًا لرصد أحدث التهديدات. بعض الحلول المتقدمة للشركات تتيح إدارة مركزية لفحص الأجهزة والتأكد من سلامتها باستمرار.
• النسخ الاحتياطي المنتظم: لا غنى عن وجود نُسخ احتياطية دورية مشفرة لبياناتك الحساسة في مكان آمن منفصل (سحابة أو جهاز خارجي). في حال حدث الأسوأ وتعرضت لهجوم فدية مثلاً، يمكنك استعادة بياناتك دون دفع فدية إذا كانت النسخ الاحتياطية حديثة وسليمة. اجعل عملية النسخ تلقائية بجدولة يومية أو أسبوعية، وتحقق من صلاحية النسخ باستمرار (أي قم بتجربة استعادة للتأكد أنها تعمل).
• تشفير البيانات والاتصالات: اعمل على تشفير ملفاتك المهمة بحيث لو تمت سرقتها لا تكون مفهومة بدون مفتاح فك التشفير. العديد من أنظمة التخزين تقدم خيار التشفير الشامل. أيضًا استخدام شبكات VPN آمنة عند اتصال الموظفين عن بعد بالشبكة الداخلية للشركة، لتأمين قناة الاتصال. والبريد الإلكتروني الذي يحوي معلومات حساسة يمكن تشفيره أو على الأقل استخدام منصات تراسل آمنة عند تبادل البيانات السرية.
• تأمين الأجهزة المحمولة: إذا كان موظفوك يصلون لبريد الشركة أو ملفاتها عبر هواتفهم، فمن الضروري تطبيق سياسات مثل قفل الشاشة برمز، إمكانية المسح عن بعد لو ضاع الجهاز، وتفادي حفظ الملفات الحساسة على ذاكرة الهاتف مباشرة. هناك حلول MDM (إدارة الأجهزة المحمولة) تسمح للشركة بالتحكم في بيانات العمل على هاتف الموظف دون المساس بخصوصيته الشخصية.
نشر الوعي والتدريب: الحلقة الأضعف هي البشر
لا يمكن بناء حصن أمني قوي دون توعية الناس داخله. كما يقول خبراء الأمن: “المخترق لا يحتاج لكسر الباب إذا كان معه مفتاح حصل عليه من الداخل” – والمفتاح هنا هو خطأ بشري أو سلوك غير واعٍ. إذًا:
• درّب موظفيك بانتظام: قدم ورش عمل أو دورات قصيرة حول أسس الأمن الإلكتروني. عرّفهم على أمثلة لرسائل البريد الاحتيالية وخصائصها، حذرهم من مشاركة المعلومات مع غرباء عبر الهاتف أو البريد، علمهم إجراءات بسيطة مثل قفل الحاسوب عند الابتعاد عنه، وعدم استخدام شبكات Wi-Fi عامة دون VPN. التكرار مهم؛ ربما نصف سنويًا على الأقل ورشة توعية، لأن الهجمات تتطور. بعض المؤسسات تجري محاكاة داخلية – ترسل بريدًا وهميًا لمعرفة من سيقع في الفخ، ثم توجه تعليمات إضافية لمن انخدع، وهذا دون عقاب طبعًا بل لغرض التعليم.
• ارسم سياسات واضحة للاستجابة للحوادث: الكل يجب أن يعرف ماذا يفعل لو اشتبه بحادث أمني. مثلًا: إذا ظن موظف أنه نقر على شيء مريب، عليه إبلاغ قسم الـIT فورًا دون خوف من اللوم، فكل دقيقة قد تمنع انتشار البرمجية أو تسريب بيانات أكثر. وينبغي أن يكون لدى فريق التقنية خطة واضحة: من يعزل الجهاز المصاب؟ كيف يتم تفعيل النسخ الاحتياطية؟ من يتواصل مع العملاء أو الجهات الرسمية لو تطلب الأمر؟ هذه الأمور يجب أن تكون مكتوبة ومتدربة مسبقًا كي لا يعم الارتباك تحت الضغط.
• تبني ثقافة “الأمان مسؤولية الجميع”: قم بتضمين جانب الأمن الإلكتروني في قيم شركتك وقم بإشراك الإدارة العليا في إظهاره أولوية. عندما يرى الموظفون أن المدير التنفيذي نفسه يحضر تدريب الأمن ويطرح الأسئلة، سيدركون أهمية الموضوع. كافئ أو اشكر الموظفين الذين يبادرون باقتراحات لتحسين الأمن أو يكتشفون ثغرة داخلية (هذه ما تسمى سياسة “المخترق الأخلاقي الداخلي”). وكذلك، كن واضحًا أن الإهمال الجسيم في السياسات الأمنية يمكن أن يؤدي لإجراءات تأديبية – فكل شخص هو جزء من الدفاع الجماعي للشركة.
ماذا لو وقعت الضربة؟ خطة التعافي والاستمرارية
حتى بأفضل الاحتياطات، لا أحد محصن 100%. لذا جزء من استراتيجية الأمن أن تضع سيناريو: ماذا لو نجح هجوم ما؟:
• خطة استمرارية العمل (BCP): تحدد كيف تستمر العمليات الأساسية أثناء وبعد الحادث. مثلاً: إذا سقط النظام الرئيسي، هل يمكن تحويل العملاء لقناة بديلة (مثل تطبيق جوال أو فرع بديل) ريثما يعود؟ إذا تعطل البريد الإلكتروني، هل لديكم وسيلة اتصال طارئة أخرى مع الموظفين كالهواتف؟ التخطيط المسبق يضمن ألا يتوقف عملك تمامًا أو على الأقل يقلل فترة التوقف.
• التعاون مع خبراء وتحقيقات: في حال اختراق خطير، لا تتردد في استدعاء خبراء رقميين خارجيين (Incident Response Team) لتحليل الحادث واحتوائه. كذلك أبلغ السلطات إن كانت هناك قوانين تلزم بذلك خاصة لو تضررت بيانات شخصية للعملاء (كما في قوانين حماية البيانات GDPR وغيرها). التعاون مهم أيضًا لمتابعة أثر الحادث على بيانات العملاء وإخطارهم بشكل شفاف إذا تضررت خصوصيتهم، فذلك أفضل من محاولة الإخفاء.
• تعلم الدروس والتحسين: بعد انقضاء الأزمة، اجمع الفريق وقيّم ما حدث بموضوعية. أين كانت الثغرة؟ كيف نمنع تكرارها؟ ربما تحتاج لتحديث سياساتك أو تقوية عنصر معين في البنية. حول الحادثة إلى درس تعليمي لجميع الموظفين (بدون إحراج أو لوم أفراد معينين علنًا)، فأحيانًا لا شيء يرسخ الوعي مثل المرور بتجربة حقيقية. الشركات التي تنجو من اختراق ما غالبًا ما تخرج أقوى أمنيًا بعده إذا استخلصت العبر صحيحة.
رأي “ناحية”: الاستثمار في الأمان استثمار في الثقة
عملاؤنا في “ناحية” كثيرًا ما يسألون عن العائد على الاستثمار في الأمن السيبراني – هل يبرر تكلفته؟ وجهة نظرنا: يكفي أن تعلم أن 55% من العملاء لن يستمروا مع شركة تعرضت لخرق بيانات حتى تدرك أن سمعتك على المحك. فقدان ثقة عميل واحد قد يكلفك الكثير من الإيرادات المستقبلية، فكيف بالعشرات أو المئات؟
روى لنا صاحب شركة تجارة إلكترونية صغيرة كيف تعرض لعملية احتيال إلكتروني اخترقت نظام الدفع لديه. ورغم أنه سد الثغرة لاحقًا، إلا أن بعض العملاء ترددوا في العودة للشراء منه بعد سماع الخبر. تعلم الدرس بالطريقة الصعبة وبات يستثمر سنويًا في تدقيق أمني خارجي لنظامه. بالمقابل، شركة ناشئة في مجال التقنية المالية كنا نستشيرها، أخذت موضوع الحماية على محمل الجد من يومها الأول، رغم مواردها المحدودة: عينت مستشارًا أمنيًا بأجر مؤقت ليضع لها الأساسيات، وحرصت على الامتثال لأفضل معايير التشفير. هذا الاستثمار ساعدها في جذب مستثمرين لأنهم رأوا مستوى نضج غير معتاد لشركة في طورها، كما جذب لها شراكات مع بنوك كبيرة إذ اطمأنوا لصلابة نظامها.
ختامًا، يود فريق “ناحية” التشديد على مبدأ: “كن استباقيًا وليس تفاعليًا” في الأمن السيبراني. أي لا تنتظر وقوع المشكلة ثم تبحث عن الحل، بل توقع المشكلة واستعد لها فتحمي نفسك وتوفر على شركتك الأضرار والتكاليف. عالمنا الرقمي لن يصبح أكثر أمانًا من تلقاء نفسه؛ المخاطر تتطور باستمرار، لكن بالمثل أدوات الدفاع والوعي لدينا تتطور أيضًا. فاجعل الأمان عادة يومية في مؤسستك، وازرع ثقافة أن سلامة بيانات العملاء مسؤولية شرف وأمانة. عندها، ستكسب ليس فقط حماية أعمالك، بل أيضًا احترام وثقة كل من يتعامل معك في هذا العصر الرقمي المليء بالتحديات.